مسحللبحث عن حديث أو فتوى أكتب كلمة بسيطة

الرد على الشبهات في جواز الاحتفال بالمولد النبوي


شبهات وتلبيسات 

وعادةُ أهلِ الأهواء التمسُّكُ بالشُّبُهات يُلبِّسونها على العوامِّ وسائرِ مَنْ سار على طريقتهم، يحسبها الجاهل ـ بحُسْن ظنِّه ـ أدلَّةَ الشرع وأحكامَه(٢٢)،﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ ٧٨ [آل عمران].

ومِنْ جُملة الشُّبُهات وأهمِّ التعليلات:

الشبهة الأولى: استنادُهم إلى قوله تعالى: ﴿قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ ٥٨ [يونس]، على أنَّ في الآية أمرًا بالفرح بمولده صلَّى الله عليه وسلَّم والاحتفالِ به.

– الشبهة الثانية: استنادُهم إلى قوله تعالى: ﴿وَذَكِّرۡهُم بِأَيَّىٰمِ ٱللَّهِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ ٥ [إبراهيم]، ليشكروا اللهَ على نعمةِ مَولد النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ففي الآيةِ دليلٌ ـ في اعتقادهم ـ على جوازِ تخصيصِ شهرِ ربيعٍ الأوَّل، وليلةِ: «١٢ ربيع الأوَّل» منه للابتهاج والفرحة بمولده، وإفهامِ الناسِ سيرةَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأخلاقَه ومعجزاتِه وشمائلَه، وما لَقِيَه في دعوته مِنَ المِحَنِ والشدائد، وهو صبَّارٌ على طاعة الله وعن مَحارِمه وعلى أقداره، شكورٌ قائمٌ بحقوق الله، يشكر اللهَ على نِعَمِه، كُلُّ ذلك مِنَ التذكير بأيَّام الله.

– الشبهة الثالثة: تأييدُهم لذلك بما وَرَد في «صحيح مسلم» وغيره: أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم سُئِلَ عن صوم الإثنين؟ فقال: «فِيهِ وُلِدْتُ، وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ»(٢٣)، ووجهُه أنه يدلُّ على شرفِ ولادته صلَّى الله عليه وسلَّم، ويُفيدُ شرعيةَ الاحتفال بمولده.

– الشبهة الرابعة: احتجاجهم على جواز المولد بأنَّ أبا لهبٍ يُخفَّفُ عنه العذابُ كُلَّ إثنين لأنَّه أعتق ثُوَيْبةَ إثرَ بشارتِها له بولادة النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على ما جاء في البخاريِّ: «قَالَ عُرْوَةُ: وَثُوَيْبَةُ مَوْلَاةٌ لِأَبِي لَهَبٍ كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَهَا فَأَرْضَعَتِ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ، قَالَ لَهُ: «مَاذَا لَقِيتَ؟» قَالَ أَبُو لَهَبٍ: «لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ فِي هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ»»(٢٤)، ولمَّا كان فرحُه بولادة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم سببًا في تخفيفِ العذاب عنه فذلك دليلٌ على جواز الفرح والابتهاج بيوم مولِدِه والاحتفالِ به(٢٥).

– الشبهة الخامسة: أنَّ الغرض مِنْ إقامةِ مولده صلَّى الله عليه وسلَّم ـ كما قرَّره أهلُ الطُّرُق ـ هو شُكْرُ الله على نعمةِ إيجاده، وتخصيصُ شكرِ الله تعالى عليه إنما يكون بإقامة الولائم وإطعامِ الطعام والتوسعةِ على الفقراء ـ زعموا ـ فضلًا عن أعمال البِرِّ الأخرى النافعةِ كالاجتماع على قراءة القرآن وتلاوتِه، والذِّكْرِ والصلاة على النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وسماعِ شمائله الشريفة وقراءةِ سيرته العطرة؛ كُلُّ ذلك ـ عندهم ـ محمودٌ غيرُ محظورٍ، بل مطلوبٌ إحياءً للذِّكرى، معلِّلين ذلك بما حثَّ الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم أُمَّتَه عليه مِنْ صومِ عاشوراءَ شُكْرًا للهِ على نجاةِ موسى ومَنْ معه، فإنَّ ذلك كُلَّهُ يُستفادُ منه شرعيةُ الاحتفال بالمولد(٢٦)، ويعكس ـ حالَ الاجتماع عليه ـ محبَّةَ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وتعظيمَهُ

– الشبهة السادسة: ذهابُ بعضِهم إلى أنَّ أعيادَ الميلاد مِنْ عادات أهلِ الكتاب، والعادةُ إذا تَفَشَّتْ عند المسلمين أصبحَتْ مِنْ عاداتهم، والبدعةُ لا تَندرِج في العادات وإِنَّمَا تدخل في العبادات.

تفنيد الشبهات ومختلف التعليلات

تفنيد الشبهة الأولى:

لا يخفى أنَّ تفسيرَ قوله تعالى: ﴿قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ ٥٨ [يونس] بمولده صلَّى الله عليه وسلَّم لا يَشهدُ له أيُّ تفسيرٍ، وهو مُخالِفٌ لِمَا فَسَّرَه به الصحابةُ الكرام والأئمَّةُ الأعلام، وقد جاء عنهم أَنَّ المرادَ بفضل الله: القرآنُ، ورحمتِه: الإسلامُ، وبهذا قال ابنُ عبَّاسٍ وأبو سعيدٍ الخُدْريُّ رضي الله عنهم، وعنهما ـ أيضًا ـ: فضلُ الله: القرآنُ، ورحمتُه: أَنْ يجعلكم مِنْ أهله، وقِيلَ: العكسُ(٢٧).

فالحاصلُ أنَّ اللهَ تعالى لم يأمر عِبادَه بتخصيصِ ليلةِ المولد بالفرح والاحتفال، وإنَّما أَمَرهم أَنْ يفرحوا بالإسلام وهو دِينُ الحقِّ الذي أنزل على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، ويدلُّ عليه قولُه تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٧ [الأنبياء]، وقد تعرَّضَتِ الآيةُ للبعثة ولم تتعرَّض لولادته؛ قال تعالى ـ مُمْتَنًّا على المؤمنين ـ: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ [آل عمران: ١٦٤]، وفي «صحيح مسلم»: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً(٢٨)»(٢٩)، وفي روايةٍ في «صحيح مسلم» ـ أيضًا ـ أَنَّه لَمَّا سُئِلَ عن صوم الإثنين قال: «وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ»(٣٠).

تفنيد الشبهة الثانية:

أمَّا قوله تعالى: ﴿وَذَكِّرۡهُم بِأَيَّىٰمِ ٱللَّهِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ ٥ [إبراهيم]، فالمرادُ به أَنْ يُذكِّرَهم بنِعَم اللهِ ونِقَمِه التي انتقم فيها مِنْ قومِ نوحٍ وعادٍ وثمود، والمعنى: أَنْ يَعِظَهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد، فإنَّ في التذكيرِ بها لدلالاتٍ عظيمةً على التوحيد وكمالِ القدرة لكُلِّ مُؤمِنٍ، وأُرْدِفَتِ الآيةُ بالوصفين المذكورين وهما: «الصبر والشكر»؛ لأنَّهما ملاكُ الإيمان(٣١)، وقد صحَّ مِنْ حديثِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أَنَّه قال: «عَجَبًا لِأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ «شَكَرَ» فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ «صَبَرَ» فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»(٣٢).

ولا يخفى أنَّ الصحابة رضي الله عنهم ومَنْ بعدَهم مِنْ أهل الإيمان الذين يصبرون في الضرَّاء ويشكرون في السَّرَّاء ويُحْيُون سُنَّتَه ويتَّبِعون هديَه لم يفهموا مِنَ الآيةِ الاحتفالَ بالمولد لا مِنْ قريبٍ ولا مِنْ بعيدٍ، ولا أقاموه، وإنَّما حَدَث بعد القرون الثلاثة المفضَّلة.

تفنيد الشبهة الثالثة:

أمَّا شبهتُهم بالحديث فغايةُ ما يدلُّ عليه الترغيبُ في الصيام يومَ الإثنين(٣٣) وقد اكتفى صلَّى الله عليه وسلَّم به، وما كفى النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يكفي أُمَّتَه، وما وَسِعه يَسَعها؛ ولذلك كان شكرُ الله على نعمةِ ولادتِه بنوع ما شَكَر به صلَّى الله عليه وسلَّم إنَّما يكون في هذا المعنى المشروع، ومِنْ ناحيةٍ أخرى فإنَّ يومَ الإثنين الذي هو يومُ مولدِه صلَّى الله عليه وسلَّم ومبعثِه ـ كما وَرَد في الحديث ـ قد وافَقَ يومَ وفاتِه بلا خلافٍ(٣٤)، وعلى المشهور ـ أيضًا ـ فإنَّ ولادته ووفاته كانتَا في شهرِ ربيعٍ الأوَّل، فلماذا يفرح الناسُ بولادته ولا يحزنون على وفاته؛ إذ ليس الفرحُ أَوْلى مِنَ الحزن فيه، علمًا بأنَّ وفاتَه صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ أعظمِ ما ابتُلِيَ به المسلمون، وأفجعِ ما أُصيبَتْ به أُمَّةُ الإسلام؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَيُّمَا أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ ـ أَوْ مِنَ المُؤْمِنِينَ ـ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَتَعَزَّ بِمُصِيبَتِهِ بِي عَنِ المُصِيبَةِ الَّتِي تُصِيبُهُ بِغَيْرِي؛ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِي لَنْ يُصَابَ بِمُصِيبَةٍ بَعْدِي أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُصِيبَتِي»(٣٥).

قال ابن الحاج المالكيُّ ـ رحمه الله ـ: «العجب العجيب كيف يعملون المولدَ بالمغاني والفرح والسرور ـ كما تقدَّم ـ لأجلِ مولدِه عليه الصلاةُ والسلام في هذا الشهر الكريم، وهو عليه الصلاةُ والسلام فيه انتقل إلى كرامةِ ربِّهِ، وفُجِعَتِ الأُمَّةُ فيه وأُصيبَتْ بمُصابٍ عظيمٍ لا يعدل ذلك غيرُها مِنَ المصائب أبدًا؛ فعلى هذا كان يتعيَّن البكاءُ والحزن الكثير، وانفرادُ كُلِّ إنسانٍ بنفسه لِمَا أُصيبَ به؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لِيُعَزِّ المُسْلِمِينَ فِي مَصَائِبِهِمُ المُصِيبَةُ بِي»»(٣٦).

وليس لليوم الثاني عشرَ مِنْ ربيعٍ الأوَّل ـ إِنْ صحَّ أنَّه مولدُه ـ مِنْ ميزةٍ دون الأيَّام الأخرى؛ لأنَّه لم يُنْقَلْ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنَّه خصَّصه بالصيام أو بأيِّ عملٍ آخَرَ، ولا فَعَله أهلُ القرون المفضَّلة مِنْ بعده؛ فدلَّ ذلك على أنَّه ليس له مِنْ فضلٍ على غيره مِنَ الأيَّام.

وحقيقٌ بالتنبيه: أنَّ عمر بنَ الخطَّاب رضي الله عنه ومَنْ معه مِنَ الصحابة الكرام أجمعوا على ابتداء التقويم السنويِّ الإسلاميِّ مِنَ التاريخ الهجريِّ، وقد خالفوا في ذلك النصارى في البداءة حيث ابتدأوا تقويمَهم السَّنويَّ مِنْ يومِ ولادة المسيحِ عيسى عليه السلام فعن سعيد بنِ المسيِّب قال: «جَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ فَسَأَلَهُمْ: مِنْ أَيِّ يَوْمٍ يَكْتُبُ التَّارِيخَ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: مِنْ يَوْمِ هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وَتَرَكَ أَرْضَ الشِّرْكِ، فَفَعَلَهُ عُمَرُ رضي الله عنه»(٣٧).

ولم يُنْقَل عنهم أنهم اتَّخذوا مولِدَه صلَّى الله عليه وسلَّم ولَا مَبْعثَه ولا هجرتَه ولَا وفاتَه عيدًا يحتفلون به، كما أنَّهم لم يقتدوا بالنصارى في وضعِ التاريخ الإسلاميِّ؛ إذ المعلومُ أنَّ مِنْ سنَّة النصارى اتِّخاذَ موالدِ الأنبياءِ أعيادًا، فكيف يُعْدَل عن سُنَن الخلفاء الراشدين المهديِّين إلى الاستنان بسُنَّة النصارى الضالين؟! وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»(٣٨).

ولا يخفى أنَّ سبيل الصحابة رضي الله عنهم حقٌّ لازمٌ اتِّباعُه، وقد جاء الوعيدُ على اتِّباعِ غيرِ سبيلِ المؤمنين في قوله تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥ [النساء].

تفنيد الشبهة الرابعة:

أمَّا مَنْ رأى أبا لهبٍ بعد موته في النوم أنه خُفِّف عنه بعضُ العذاب كُلَّ ليلةِ إثنين(٣٩)، فجوابُه مِنْ عِدَّةِ وجوهٍ:

الأوَّل: أنَّه ليس في حديث البخاريِّ أنَّه يخفَّفُ عنه كُلَّ إثنين، ولا أنه أعتق ثُوَيْبة مِنْ أجلِ بشارتها إيَّاه بولادته صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد ذَكَر ابنُ حجرٍ أنَّ أبا لهبٍ أعتقها بعد هجرةِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم(٤٠)، ورُوِي أنَّه أعتقها قبل ولادته بزمنٍ طويلٍ(٤١).

الثاني: أنَّه خبرٌ مُرْسَلٌ أرسله عُرْوةُ ولم يذكر مَنْ حدَّثه به.

الثالث: وعلى تقديرِ أنَّه موصولٌ فالذي في الخبرِ رُؤْيَا منامٍ فلَا حُجَّةَ فيه كما صَرَّح به الحافظ ابنُ حَجَرٍ(٤٢)، قال المعلِّميُّ ـ رحمه الله ـ: «اتَّفق أهلُ العلم أَنَّ الرُّؤْيَا لا تصلح للحُجَّة، وإنما هي تبشيرٌ وتنبيهٌ، وتصلح للاستئناس بها إذا وافقَتْ حُجَّةً شرعيةً صحيحةً»(٤٣).

الرابع: أنَّ الرائيَ له في المنام هو أَخُوهُ العبَّاسُ رضي الله عنه، وذلك بعد سَنَةٍ مِنْ وفاةِ أبي لهبٍ بعد وقعةِ بدرٍ ذَكَره السُّهيليُّ(٤٤)، ولعلَّ الرَّائيَ لم يكن ـ إذ ذاك ـ قد أسلم(٤٥).

الخامس: أنَّ الخبر مُخالِفٌ لظاهرِ القرآن والإجماع؛ لقوله تعالى: ﴿وَقَدِمۡنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنۡ عَمَلٖ فَجَعَلۡنَٰهُ هَبَآءٗ مَّنثُورًا ٢٣ [الفرقان]، ولقوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَسَرَابِۢ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡ‍َٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡ‍ٔٗا [النور: ٣٩]، وقولِه تعالى: ﴿مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَرَمَادٍ ٱشۡتَدَّتۡ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوۡمٍ عَاصِفٖ [إبراهيم: ١٨]، ولقد كان أبو لهبٍ مِنْ أشدِّ الناسِ عداوةً للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ومُبالغةً في إيذائه؛ الأمرُ الذي يهدم ما سَلَف مِنَ الفرح به لو صحَّ ذلك، وقد ذَكَر القاضي عياضٌ انعقادَ الإجماع على أنَّ الكُفَّار لا تنفعهم أعمالُهم ولا يُثابون عليها بنعيمٍ ولا تخفيفِ عذابٍ وإِنْ كان بعضُهم أشدَّ عذابًا مِنْ بعضٍ(٤٦).

السادس: وعلى فرضِ التسليم والقَبول جَدَلًا بأنه خفِّف عنه لإعتاقه ثُوْيبةَ بسببِ ولادته وإرضاعِه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فإنَّ هذا الأمرَ لا يخفى على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، كما لم يَخْفَ عليه تخفيفُ العذاب عن عمِّه أبي طالبٍ لأجل حمايته ونصرته، ومع هذا العلم لم يُنْقَلْ عنه اتِّخاذُ يومِ مولده عيدًا، ولا أصحاب القرون المفضَّلة بعده.

تفنيد الشبهة الخامسة:

وأمَّا التوسعةُ على الفقراء بإطعام الطعام وغيرها مِنْ أفعال البِرِّ والإحسان فإن وقعَتْ على الوجه الشرعيِّ فهي مِنْ أعظم القُرُبات والطاعات، أمَّا تخصيصُها بوجهٍ لا يثبت إلَّا بنصٍّ شرعيٍّ، فإنه إذا انتفى تنتفي المشروعيةُ، عملًا بقاعدةِ: «كُلُّ مَا أُضِيفَ إِلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ»، وقاعدةِ: «إِذَا سَقَطَ الأَصْلُ سَقَطَ الفَرْعُ»(٤٧).

أمَّا الدروس والعِبَرُ والعِظَات وتلاوةُ القرآن والذِّكر والصلاة على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وقراءة سيرتِه وغيرِها فإنَّما تُشْرَع كُلَّ وقتٍ، وفي كُلِّ مكانٍ مِنْ غيرِ تخصيصٍ كعموم المساجد والمدارس والمجالس العامَّة والخاصَّة، وتسري عليها القاعدةُ السابقة: «إِذَا سَقَطَ الأَصْلُ مَعَ إِمْكَانِهِ فَالتَّابِعُ أَوْلَى»(٤٨).

وإِنْ أُريدَ بالدروس والعِظَاتِ وقراءةِ سيرته إحياءُ ذِكْره فإنَّ الله تَكفَّل برفع ذِكْره في الدنيا والآخرة على مَدارِ الأزمنة والدهور، فيُذْكَر مع الله في الأذان والخُطَب والصَّلوات والإقامة والتشهُّد ونحو ذلك، فَقَصْرُ ذِكْره على يومِ مولدِه صلَّى الله عليه وسلَّم جفاءٌ في حَقِّهِ وتقصيرٌ في تعظيمه وتفريطٌ في توقيره ومحبَّته.

وأمَّا عاشوراءُ الذي حثَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على صيامه شُكرًا لله على نجاةِ موسى ومَنْ معه فإنَّما كان امتثالًا لأمرِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وطاعةً له، وهو شُكْرٌ لله على تأييده للحقِّ على الباطل، لكن ليس فيه دليلٌ لا مِنْ قريبٍ ولا مِنْ بعيدٍ على إقامة الموالد والاجتماع إليها وإحداث المواسم الدينية لربط الأزمنة بالأحداث ـ زعموا ـ وإنَّما التوجيه النبويُّ لأُمَّته أَنْ يعبِّروا عن شكر الله بتجسيده بالصيام، لا باتِّخاذه عيدًا يُحتفَلُ به حتَّى يُلْحقَ به مولدُه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ إذ لا يُعْرَف في الإسلام مِنَ الأعياد السنوية إلَّا عيدُ الأضحى وعيدُ الفطر ـ كما تقدَّم ـ ولو شَرَعه لنا عيدًا لَنَدَب إليه ولَأمَرَ بترك صومه؛ لأنَّ الناس يُعتبَرُون في العيد ضيوفًا عند الله تعالى، والصومُ إعراضٌ عن الضيافة؛ لذلك يفسد إلحاقُ حكم المولد قياسًا على عاشوراءَ لقادح المنع، وهو منعُ حكم الأصل.

تفنيد الشبهة السادسة:

ثمَّ إنَّ الاحتفال بعيدِ ميلاد عيسى عليه السلام ليس مِنْ عادات الكُفَّار، وإنَّما هو مِنْ عباداتهم، كما أفصح عن ذلك ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ بقوله: «ومَنْ خصَّ الأمكنةَ والأزمنة مِنْ عنده بعباداتٍ لأجل هذا وأمثالِه، كان مِنْ جنسِ أهل الكتاب الذين جعلوا زمانَ أحوال المسيحِ مواسمَ وعباداتٍ، كيومِ الميلاد، ويومِ التعميد(٤٩)، وغيرِ ذلك مِنْ أحواله»(٥٠).

وإذا سلَّمْنا ـ جدلًا ـ أنَّه مِنْ عاداتهم فقَدْ نُهينا عن التشبُّه بأهل الكتاب وتقليدِهم، سواءٌ في أعيادهم أو في غيرها؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»(٥١)، وأقلُّ أحوالِ الحديثِ اقتضاءُ تحريمِ التشبُّه بهم، وإِنْ كان ظاهرُه يقتضي كُفْرَ المتشبِّه بهم كما في قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡ [المائدة: ٥١](٥٢)، ومعلومٌ أنَّ المشابهة إذا كانَتْ في أمورٍ دنيويةٍ فإنَّها تُورِثُ المحبَّةَ والموالاة، فكيف بالمشابهة في أمورٍ دينيةٍ؟ فإنَّ إفضاءَها إلى نوعٍ مِنَ الموالاة أكثرُ وأشدُّ، والمحبَّة والموالاة لهم تُنافي الإيمانَ، كما قرَّره شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ(٥٣).

📚 الشيخ محمد علي فركوس حفظه الله 🔹الموقع الرسمي / الكلمة الشهرية رقم: ٧ / حكم الاحتفال بمولد خير الأنام عليه الصلاة والسلام